الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} من معركة الجدل والمناظرة، والبيان والتنوير، والتوجيه والتحذير- فيما سبق من السورة- ينتقل السياق إلى المعركة في الميدان.. معركة أحد.. وغزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده؛ إنما كانت معركة كذلك في الضمير.. كانت معركة ميدانها أوسع الميادين. لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحداً من ميدانها الهائل الذي دارت فيه.. ميدان النفس البشرية، وتصوراتها ومشاعرها، وأطماعها وشهواتها، ودوافعها وكوابحها، على العموم.. وكان القرآن هناك. يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال! وكان النصر أولاً، وكانت الهزيمة ثانياً وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة.. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن؛ واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين. وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وانطلاق الجماعة المسلمة- بعد ذلك- متحررة من كثير من غبش التصور، وتميع القيم، وتأرجح المشاعر، في الصف المسلم. وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك. ووضوح تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه والحركة به، ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة، والاستعداد بالتجرد، والاستعداد بالتنظيم، والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه. وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث، ومن وراء التوجيهات القرآنية بعد الأحداث، أكبر وأخطر- بما لا يقاس- من حصيلة النصر والغنيمة.. لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة.. وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة.. كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة. وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة. وكان تدبير الله العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر.. كان تدبير الله العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة، تدبيراً كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية، والوعي والنضج، والتمحيص والتميز، والتنسيق والتنظيم. وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن. ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة! لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر: ميدان النفس، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة. وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله، عن علم وعن حكمة، وعن خبرة، وعن بصيرة. وكان ما شاءه الله وما دبره. وكان فيه الخير العظيم، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير. ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض مشاهدها ووقائعها، والتوجيهات المباشرة على هذه المشاهد والوقائع.. وبين التوجيهات الأخرى المتعلقة بتصفية النفوس، وتخليصها من غبش التصور، وتحريرها من ربقة الشهوات، وثقلة المطامع، وظلام الأحقاد، وظلمة الخطيئة، وضعف الحرص والشح. والرغبات الدفينة. ولعل مما يلفت النظر أكثر، الكلام- في صدد التعقيب على معركة حربية- عن الربا والنهي عنه، وعن الشورى والأخذ بها، على الرغم مما كان للشورى من معقبات ظاهرية في النتائح السيئة للمعركة! ثم.. سعة المساحة التي يعمل فيها المنهج القرآني في النفس البشرية، وفي الحياة الإنسانية، وتعدد نقط الحركة فيها، وتداخلها، وتكاملها العجيب.. ولكن الذين يدركون طبيعة هذا المنهج الرباني لا يعجبون لشيء من ذلك الازدواج وهذه السعة، وهذا التداخل، وهذا التكامل. فالمعركة الحربية في الحركة الإسلامية ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد، وتدبير حربي فحسب.. فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن المعركة الكبرى في عالم الضمير، وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة.. إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير، وخلوصه، وتجرده، وتحرره من الأوهاق والقيود التي تطمس على شفافيته، وتقعد به دون الفرار إلى الله! وكذلك هي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع التنظيمية التي تقوم عليها حياة الجماعة المسلمة، وفق منهج الله القويم. المنهج الذي يقوم على الشورى في الحياة كلها- لا في نظام الحكم وحده- وعلى النظام التعاوني لا النظام الربوي. والتعاون والربا لا يجتمعان في نظام! والقرآن كان يعالج الجماعة المسلمة، على إثر معركة لم تكن- كما قلنا- معركة في ميدان القتال وحده. إنما كانت معركة في الميدان الأكبر. ميدان النفس البشرية، وميدان الحياة الواقعية.. ومن ثم عرج على الربا فنهى عنه؛ وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه؛ وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة؛ وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار؛ فجعلها كلها مناط الرضوان. كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولين قلبه للناس. وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات. وعلى الأمانة التي تمنع الغلول. وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات.. عرج على هذا كله. لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع؛ الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها. معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير. الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة. وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله. ورده كله إلى محور واحد: محور العبادة لله، والعبودية له، والتوجه إليه في حساسية وتقوى. وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها، في كل حال من أحوالها. وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج. وإلى وحدة النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله، وتأثير كل حركة من حركات النفس، وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية. وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة. فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في «أحد» إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب. والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين. والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي. إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي. وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك. كذلك كان من الحقائق التي اتكأ عليها السياق من بدئه إلى نهايته.. حقيقة قدر الله. ورد الأمر إليه جملة. وتصحيح التصور في هذه النقطة تصحيحاً حاسماً جازماً وفي الوقت ذاته تقرير سنة الله في ترتيب العواقب التي تحل بالبشر على ما يصدر من سعيهم ونشاطهم، وخطئهم وإصابتهم، وطاعتهم ومعصيتهم، وتمسكهم بالمنهج وتفريطهم فيه. واعتبارهم بعد هذا كله ستاراً للقدرة، وأداة للمشيئة، وقدراً من قدر الله يحقق به ما يشاء سبحانه. ثم.. في النهاية.. إشعار الجماعة المسلمة أن ليس لها من أمر النصر شيء. إنما هو تدبير الله لتنفيذ قدره، من خلال جهادها. وأجرها هي على الله. وليس لها من ثمار النصر شيء من أشياء هذه الأرض. ولا لحسابها الخاص يؤتيها الله النصر إذ يشاء. إنما لحساب الأهداف العليا التي يشاؤها الله. وكذلك الهزيمة. فإنها حين تقع بناء على جريان سنة الله، وفق ما يقع من الجماعة المسلمة من تقصير وتفريط، إنما تقع لتحقيق غايات يقدرها الله بحكمته وعلمه؛ لتمحيص النفوس وتمييز الصفوف، وتجلية الحقائق، وإقرار القيم، وإقامة الموازين، وجلاء السنن للمستبصرين.. ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي؛ ما لمم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني، في الانتصار على النفس، والغلبة على الهوى، والفوز على الشهوة. وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس. ليكون كل نصر نصراً لله ولمنهج الله. وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله. وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية. ولا خير فيها للحياة ولا للبشرية. إنما الخير أن ترتفع راية الحق لذات الحق. والحق واحد لا يتعدد. إنه منهج الله وحده. ولا حق في هذا الكون غيره. وانتصاره لا يتم حتى يتم أولاً في ميدان النفس البشرية. وفي نظام الحياة الواقعية. وحين تخلص النفس من حظ ذاتها في ذاتها، ومن مطامعها وشهواتها، ومن أدرانها وأحقادها، ومن قيودها وأصفادها. وحين تفر إلى الله متحررة من هذه الأثقال والأوهاق. وحين تنسلخ من قوتها ومن وسائلها ومن أسبابها، لتكل الأمر كله إلى الله، بعد الوفاء بواجبها من الجهد والحركة. وحين تحكم منهج الله في الأمر كله، وتعد هذا التحكيم هو غاية جهادها وانتصارها. حين يتم هذا كله يحتسب الانتصار في المعركة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية انتصاراً في ميزان الله. وإلا فهو انتصار الجاهلية على الجاهلية، الذي لا وزن له عند الله ولا قيمة! ومن ثم كان ذلك الازدواج، وكان ذلك الشمول، في التعقيب على المعركة التي دارت يوم أحد، في ذلك الميدان الفسيح، الذي يعد ميدان القتال جانباً واحداً من جوانبه الكثيرة. وقبل أن نأخذ في استعراض ذلك التعقيب القرآني على أحداث المعركة يحسن أن نلخص وقائعها كما وردت في روايات السيرة؛ لندرك مواضع التعقيب والتوجيه حق الإدراك، ولنراقب طريقة التربية الإلهية بالقرآن الكريم، في تناول الوقائع والأحداث: كان المسلمون قد انتصروا في بدر، ذلك الانتصار الكامل، الذي تبدو فيه- في ظل الظروف التي وقع فيها- رائحة المعجزة. وقد قتل الله بأيديهم أئمة الكفر ورءوسه من قريش. فرأس في قريش أبو سفيان بن حرب- بعد ذهاب أشرافهم في بدر- فأخذ يؤلب على المسلمين لأخذ الثأر. وكانت القافلة التي تحمل متاجر قريش قد نجت فلم تقع في أيدي المسلمين؛ فتآمر المشركون على رصد ما فيها من أموال لحرب المسلمين. وقد جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم والأحابيش وخرج بهم في شوال من السنة الثالثة للهجرة؛ وجاءوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا. ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبل أحد. «واستشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه: أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألاَّ يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها؛ فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي (رأس المنافقين) فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة- ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر- فأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك. حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة. فنهض- صلى الله عليه وسلم- ودخل بيته- بيت عائشة- رضي الله عنها- ولبس لأمته، وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك. وقالوا: أكرهنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الخروج! فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه» . وألقى عليهم بذلك درساً نبوياً عاليا؛ فللشورى وقتها حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله. ولم يعد هناك مجال للتردد، وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء.. إنما تمضي الأمور لغاياتها ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء.. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد رأى في منامه: أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقراً تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة.. فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته. وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون. وتأول الدرع بالمدينة.. وكان إذن يرى عاقبة المعركة. ولكنه في الوقت ذاته كان يمضي نظام الشورى، ونظام الحركة بعد الشورى.. لقد كان يربي أمة. والأمم تربى بالأحداث، وبرصيد التجارب الذي تتمخض عنه الأحداث.. ثم لقد كان يُمضي قدر الله، الذي تستقر عليه مشاعره، ويستقر عليه قلبه، فيمضي وفق مواقع هذا القدر، كما يحسها في قلبه الموصول.. وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، فلما صار بين المدينة وأحد، انعزل رأس النفاق: عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر. وقال: يخالفني ويسمع للفتية! فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام- والد جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- يوبخهم ويحضهم على الرجوع. ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع! فرجع عنهم وسبهم. وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود.. فأبى- صلى الله عليه وسلم- فالمعركة هي معركة الإيمان والكفر فما ليهود بها؟ والنصر من عند الله- حين يصح التوكل عليه وتتجرد القلوب له- وقال: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟» فخرج به بعض الأنصار حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم. فلما أصبح تعبأ للقتال في سبعمائة، فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله ابن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر. وكانوا خلف الجيش. وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم. وظاهر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين درعين. وأعطى اللواء مصعب بن عمير. وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو. واستعرض الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال. وكان منهم عبد الله بن عمرو، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد ابن أرقم، وزيد بن ثابت، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزام. وأجاز من رآه مطيقاً. وكان منهم سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة! وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف. وفيهم مائتا فارس. فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل. ودفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة. وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب. وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق. وكان يسمى «الراهب» فسماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «الفاسق». وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحضهم على قتاله. ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه. فكان أول من لقي المسلمين. فنادى قومه، وتعرف إليهم. فقالوا له: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً. ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسناً. هو وطلحة بن عبيد الله، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، والنضر بن أنس، وسعد بن الربيع.. وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار؛ حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم. وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين. حتى انتهوا إلى نسائهم. وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات! فلم رأى الرماة هزيمة المشركين وانكشافهم، تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألا يبرحوها وقالوا: يا قوم، الغنيمة! الغنيمة! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة! فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغر في أحد! عندئذ أدركها خالد، فكّر في خيل المشركين، فوجدوا الثغر خالياً فاحتلوه من خلف ظهور المسلمين. وأقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالداً والفرسان قد علوا المسلمين، فأحاطوا بهم! وانقلبت المعركة، فدارت الدائرة على المسلمين، ووقع الهرج والمرج في الصف، واستولى الاضطراب والذعر، لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد. وكثر القتل واستشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة. وخلص المشركون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا. وقد جرح وجهه- صلى الله عليه وسلم- وكسرت سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل. وهشمت البيضة على رأسه. ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع لجنبه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها! يكيد بها المسلمين. وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته. وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح: أن محمداً قتل.. فكانت الطامة التي هدت ما بقي من قواهم، فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة لا يحاولون قتالاً، مما أصابهم من اليأس والكلال! ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر- رضي الله عنه- وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم! فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد! فقاتل حتى قتل.. ووجد به بضع وسبعون ضربة. ولم تعرفه إلا أخته. عرفته ببنانه.. وأقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نحو المسلمين. وكان أول من عرفه تحت المغفر، كعب بن مالك. فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين. أبشروا. هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «فأشار بيده: أن اسكت» واجتمع إليه المسلمون. ونهضوا معه إلى الشعب. وفيهم أبو بكر وعمر والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم.. فلما امتدوا صعوداً في الجبل أدرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبي بن خلف على جواد له اسمه العود. كان يطعمه في مكة ويقول: أقتل عليه محمداً. فلما سمع بذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «بل أنا أقتله إن شاء الله.. فلما أدركه تناول- صلى الله عليه وسلم- الحربة من الحارث وطعن بها عدو الله في ترقوته» فذهب يخور كالثور. وقد أيقن أنه مقتول. كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قبل! ومات بالفعل في طريق عودته! وأشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد؟ «فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا تجيبوه» فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة. فقال: مخاطباً قومه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر- رضي الله عنه- نفسه أن قال: يا عدو الله. إن الذين ذكرتهم أحياء. وقد أبقى الله لك ما يسوؤك! فقال: قد كان في القوم مثلة، لم آمر بها ولم تسؤني! (يشير بذلك إلى ما صنعته زوجه هند بجثمان حمزة- رضي الله عنه- بعد أن قتله وحشي. حين بقرت بطنه، واستخرجت كبده. فلاكتها ثمّ لفظتها!) ثم قال: اعلُ هُبل! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ألا تجيبونه؟ قالوا: بماذا نجيبه؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. قال: لنا العزى ولا عزى لكم! قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألا تجيبونه؟ قالوا: بماذا نجيبه؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم». قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال عمر- رضي الله عنه-: لا سواء. قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. ولما انقضت المعركة انصرف المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري وإحراز الأموال. فشق ذلك عليهم. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- «أخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون. فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة. وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. فوالذي نفسي بيده لو أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزهم فيها». قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون. فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة. فلما كانوا في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم. فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.. فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: «لا يخرج معنا إلا من شهد القتال.» فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك. قال: «لا» فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف؛ وقالوا: سمعاً وطاعة. وأستأذنه جابر بن عبد الله. وقال: يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته يوم أحد، فأذن لي أسير معك، فأذن له، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد؛ وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذّله، فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه، فقال: وما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع الجيش وراء هذه الأكمة! فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل فإني لك ناصح! فرجعوا على أعقابهم إلى مكة. ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريدون المدينة؛ فقال: هل لك أن تبلغ محمداً رسالة، وأوقر لك راحلتك زبيباً إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم. قال: أبلغ محمداً أنا قد جمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه. فلما بلغهم قوله قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. ولم يفت ذلك في عضدهم. وأقاموا ثلاثة أيام ينتظرون. ثم عرفوا أن المشركين أبعدوا في طريقهم إلى مكة منصرفين فعادوا إلى المدينة.. وبعد فإن هذا الملخص لأحداث الغزوة لا يصور كل جوانبها، ولا يسجل كل ما وقع فيها، مما هو موضع المثل والعبرة.. ومن ثم نذكر بعض الوقائع الموحية، تكملة لرسم الجو واستحيائه: كان عمرو ابن قميئة من المشركين الذين خلصوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين أفرد في فترة اضطراب المعركة، عقب تخلي الرماة عن أماكنهم، وإحاطة الكفار بالمسلمين، والصيحة بأن محمداً قتل، وما صنعته في صفوف المسلمين وعزائمهم. وفي هذه الغمرة التي يطيش فيها الحليم كانت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية تقاتل عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتالاً شديداً. وقد ضربت عمر بن قميئة بسيفها ضربات عدة، ولكن وقته درعان كانتا عليه. وضربها هو بالسيف فجرحها جرحاً شديداً على عاتقها.. وكان أبو دجانة يترّس بظهره على النبي- صلى الله عليه وسلم- والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك، ولا يكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعاً إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويقف دونه وحده، حتى يصرع.. في صحيح ابن حبان عن عائشة قالت: «قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أحد، انصرف الناس كلهم عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فكنت أول من فاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه. قلت: كن طلحة! فداك أبي وأمي! كن طلحة! فداك أبي وأمي! فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح. وإذا هو يشتد كأنه طير، حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فإذا طلحة بين يديه صريعاً. فقال صلى الله عليه وسلم:» دونكم أخاكم فقد أوجب «وقد رُمي النبي- صلى الله عليه وسلم- في وجنته، حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته. فذهبت لأنزعها عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه، فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة. قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذه، فجعل ينضنضه حتى استله، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى.. ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» دونكم أخاكم فقد أوجب «قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة. وجاء علي- كرم الله وجهه- بالماء لغسل جرح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكان يصب الماء على الجرح، وفاطمة- رضي الله عنها- تغسله. فلما رأت أن الدم لا يكف، أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم. وقد مصّ مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أنقاه. فقال له:» مجه «فقال: والله لا أمجه أبداً! ثم ذهب، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا». وفي صحيح مسلم «أنه- صلى الله عليه وسلم- أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما رهقوه قال: من يردهم عني وله الجنة؟فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه فقال: من يردهم ني فله الجنة وهو رفيقي في الجنة.. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما انصفنا أصحابنا.. ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه» وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا، حتى انجلت الكربة.. وقد بلغ الإعياء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه وهو يصعد الجبل والمشركون يتبعونه أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به، فجلس طلحة تحته حتى صعدها. وحانت الصلاة. فصلى بهم جالساً. ومن أحداث هذا اليوم كذلك: إن حنظلة الأنصاري (الملقب بحنظلة الغسيل) شد على أبي سفيان، فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد ابن الأسود فقتله. وكان جنباً. فإنه لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته، قام من فوره إلى الجهاد. فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن الملائكة تغسله. ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر! وقال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم. فقلت: «يا سعد. إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السلام. قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة. وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف». وفاضت نفسه من وقته. ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان. أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم. «وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم، قبل أُحد، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام. فقلت. وأين أنت؟ فقال: في الجنة، نسرح فيها حيث نشاء. قلت له ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى. ثم أحييت. فذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: هذه الشهادة يا أبا جابر». وقال خيثمة- وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصاً، حتى ساهمت إبني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة. وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً. وقد- والله يا رسول الله- أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة. وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي. فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك. فقتل بأحد شهيداً. وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني. ثم تسألني فيم ذلك؟ فأقول: فيك! وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا غزا. فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك! وقد وضع الله عنك الجهاد. فأتى عمرو بن الجموح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله. إن بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك. والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد». وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه؟ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة؟». فخرج مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقتل يوم أحد شهيداً. وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله لا يعرفونه وهم يظنونه من المشركين. فقال حذيفة: أي عباد الله أبي. فلم يفهموا قوله حتى قتلوه. فقال: يغفر الله لكم. فأراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يؤدي ديته. فقال حذيفة: قد تصدقت بديته على المسلمين. فزاد ذلك حذيفة خيراً عند رسول الله. وقال وحشي غلام جبير بن مطعم يصف مصرع حمزة سيد الشهداء في هذه الغزوة: قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس. وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئاً. فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته كأنه الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء. فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني. إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة ضربه ضربة كأنما اختطف رأسه فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه فوقعت في ثنته (أحشائه) حتى خرجت من بين رجليه. وذهب لينوء نحوي فغلب. وتركته وإياها حتى مات. ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر فقعدت فيه. إذ لم تكن لي بغيره حاجة. إنما قتلت لأعتق.. وقد جاءت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فبقرت بطن حمزة، وأخرجت كبده، ولاكتها فلم تقدر عليها. فألقتها.. ولما وقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد المعركة على جثمان حمزة- رضي الله عنه- تأثر تأثراً شديداً. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «لن أصاب بمثلك أبداً. وما وقفت قط موقفاً أغيظ إلي من هذا». ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكلت شيئاً؟» قالوا: لا. قال: «ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار». وقد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يدفن شهداء أحد في مصارعهم ولا ينقلوا إلى مقابر المدينة. وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم. فنادى منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- برد القتلى إلى مصارعهم فردوا. ووقف- صلوات الله وسلامه عليه- يدفن الرجلين والثلاثة في اللحد الواحد. وكان يسأل: أيهم أكثر أخذاً في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجلَ قدمه في اللحد. ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة. فقال: «ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد». هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان وإلا مخالفة عن الأمر وإلا حركة من الهوى وإلا لفتة من الشهوة! والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة! والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة وفي تاريخ النفاق والهزيمة! وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين.. وهذه وتلك أنشأت- وفق سنة الله وقدره- هذه النتائج التي ذاقها المسلمون ; وهذه التضحيات الجسام التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف ويرونها أشد ما نالهم من الآلام. وقد دفعوا الثمن غالياً ليتلقوا الدرس عالياً وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها: مهمة القيادة الراشدة للبشرية وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية.. فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن. إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض ; ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب ; ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه.. وهو لا يعرض الحوادث عرضاً تاريخياً مسلسلاً بقصد التسجيل ; إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث ; ورسم سمات النفوس وخلجات القلوب وتصوير الجو الذي صاحبها ; والسنن الكونية التي تحكمها ; والمبادئ الباقية التي تقررها. وبذلك تستحيل الحادثة محوراً أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات والنتائج والاستدلالات. يبدأ السياق منها ; ثم يستطرد حولها ; ثم يعود إليها ; ثم يجول في أعماق الضمائر وفي أغوار الحياة ; ويكرر هذا مرة بعد مرة حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادئ لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها. وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر فجلاها. ونقاها وأراحها في مواضعها فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقاً ولا تحس فيها لبساً ولا دخلاً.. وينظر الإنسان في رقعة المعركة وما وقع فيها- على سعته وتنوعه- ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني وما تناوله من جوانب ; فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك وأبقى على الزمن وألصق بالقلوب وأعمق في النفوس وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية وحاجات الجماعة الإسلامية في كل موقف تتعرض له في هذا المجال على تتابع الأجيال. فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان. وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان في أي زمان وفي أي مكان.. وسنعرض لها متجمعة- إن شاء الله- بعد استعراضها متفرقة في النصوص.. {وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، والله سميع عليم. إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره- وقد كان قريباً من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم. ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو واستحضار المشهد الأول بهذا النص من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته ; وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور- الذي يعرفونه- من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور. وأولها حقيقة حضور الله- سبحانه- معهم وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم. وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي. وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي. والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي بكل تكاليفه إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها وبكل حيويتها كذلك: {وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.. والله سميع عليم..}.. والإشارة هنا إلى غدو النبي- صلى الله عليه وسلم- من بيت عائشة- رضي الله عنها وقد لبس لأمته ودرعه ; بعد التشاور في الأمر وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها.. وما أعقب هذا من تنظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم- للصفوف ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل.. وهو مشهد يعرفونه وموقف يتذكرونه.. ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه: {والله سميع عليم}.. ويا له من مشهد الله حاضره! ويا له من موقف الله شاهده! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به وتخالط كل ما دار فيه من تشاور. والسرائر مكشوفة فيه لله. وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر. واللمسة الثانية في هذا المشهد الأول هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين ; بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق «عبد الله بن أبي بن سلول» حين انفصل بثلث الجيش مغضباً أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ برأيه واستمع إلى شباب أهل المدينة! وقال: {لو نعلم قتالاً لاتبعناكم!} فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة ; وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه ويطغى في ذلك القلب على العقيدة.. العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها ولا تطيق لها فيه شريكاً! فإما أن يخلص لها وحدها وإما أن تجانبه هي وتجتويه! {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون}. وهاتان الطائفتان- كما ورد في الصحيح- من حديث سفيان بن عيينة- هما بنو حارثة وبنو سلمة. أثرت فيهما حركة عبد الله بن أبيّ، وما أحدثته من رجة في الصف المسلم من أول خطوة في المعركة. فكادتا تفشلان وتضعفان. لولا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته كما أخبر هذا النص القرآني: {والله وليهما}.. قال عمر- رضي الله عنه- سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا}.. قال: نحن الطائفتان.. بنو حارثة وبنو سلمة.. وما نحب (أو وما يسرني) أنها لم تنزل، لقوله تعالى: {والله وليهما}.. (رواه البخاري ومسلم).. وهكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر ; والذي لم يعلمه إلا أهله، حين حاك في صدورهم لحظة ; ثم وقاهم الله إياه وصرفه عنهم وأيدهم بولايته فمضوا في الصف.. يكشفه لاستعادة أحداث المعركة واستحياء وقائعها ومشاهدها. ثم.. لتصوير خلجات النفوس وإشعار أهلها حضور الله معهم وعلمه بمكنونات ضمائرهم- كما قال لهم: {والله سميع عليم}- لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم. ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة ; وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف ويدب فيهم الفشل ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئاً من هذا وأين يلتجئون. ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. على وجه القصر والحصر.. على الله وحده فليتوكل المؤمنون. فليس لهم- إن كانوا مؤمنين- إلا هذا السند المتين. وهكذا نجد في الآيتين الأوليين، اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي وفي التربية الإسلامية: {والله سميع عليم}.. {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. نجدهما في أوانهما المناسب وفي جوهما المناسب ; حيث يلقيان كل إيقاعاتهما وكل إيحاءاتهما في الموعد المناسب ; وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع.. ويتبين- من هذين النصين التمهيديين- كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها ; بالتعقيب على الأحداث وهي ساخنة! ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر ; ولكنها لا تستهدف القلب البشري والحياة البشرية بالإحياء والاستجاشة وبالتربية والتوجيه. كما يستهدفها القرآن الكريم بمنهجه القويم. هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون- وقد كادوا- وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي ; وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم. وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين. ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة! فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة عن المصير الذي انتهت إليه بسبب ذلك الخلل في الصف وبسبب ذلك الغبش في التصور.. وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر- معركة بدر- لتكون هذه أمام تلك. مجالاً للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج ; ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة وأسباب النصر وأسباب الهزيمة. ثم- بعد ذلك- ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله ; لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء. وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين وفي جميع الأحوال: {ولقد نصركم الله ببدر- وأنتم أذلة- فاتقوا الله لعلكم تشكرون. إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به. وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم. ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين- ليس لك من الأمر شيء- أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون. ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم}.. والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة- كما أسلفنا- فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر. لم تكن الكفتان فيها- بين المؤمنين والمشركين- متوازنتين ولا قريبتين من التوازن. كان المشركون حوالي ألف خرجوا نفيراً لاستغاثة أبي سفيان لحماية القافلة التي كانت معه مزودين بالعدة والعتاد والحرص على الأموال والحمية للكرامة. وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة إنما خرجوا لرحلة هينة. لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها ; فلم يكن معهم- على قلة العدد- إلا القليل من العدة- وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة. ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبتة غير مستقرة في هذه البيئة! فبهذا كله يذكرهم الله- سبحانه- ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف: {ولقد نصركم الله ببدر. وأنتم أذلة. فاتقوا الله لعلكم تشكرون}.. إن الله هو الذي نصرهم ; ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات. وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم. فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة ; والذي يملك القوة وحده والسلطان. فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر ; وأن تجعله شكراً وافياً لائقاً بنعمة الله عليهم على كل حال. هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر.. ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسهم، كأنهم اللحظة فيها: {إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.. وكانت هذه كلمات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر للقلة المسلمة التي خرجت معه ; والتي رأت نفير المشركين وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح! وقد أبلغهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- ما بلغه يومها ربه لتثبيت قلوبهم وأقدامهم وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.. وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد.. إنه الصبر والتقوى ; الصبر على تلقي صدمة الهجوم والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.. فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه وأن الفاعلية كلها منه- سبحانه- وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم ; لتأنس بهذا وتستبشر وتطمئن به وتثبت. أما النصر فمنه مباشرة ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}.. وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة، وإرادته الفاعلة وقدره المباشر. وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة. وإنما هي أداة تحركها المشيئة. وتحقق بها ما تريده. {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}.. وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي وعلى تنقيتها من كل شائبة وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة.. لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب. بين قلب المؤمن وقدر الله. بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط. كما هي في عالم الحقيقة.. وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن المؤكدة بشتى أساليب التوكيد استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين على نحو بديع هادئ عميق مستنير. عرفوا أن الله هو الفاعل- وحده- وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب وبذل الجهد والوفاء بالتكاليف. . فاستيقنوا الحقيقة وأطاعوا الأمر في توازن شعوري وحركي عجيب! ولكن هذا إنما جاء مع الزمن ومع الأحداث ومع التربية بالأحداث والتربية بالتعقيب على الأحداث.. كهذا التعقيب ونظائره الكثيرة في هذه السورة.. وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول- صلى الله عليه وسلم- يعدهم الملائكة مدداً من عند الله ; إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة- حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا.. ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل- من وراء نزول الملائكة- وهو الله. الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته ويتحقق النصر بفعله وإذنه. {الله العزيز الحكيم}.. فهو {العزيز} القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر. وهو {الحكيم} الذي يجري قدره وفق حكمته والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة.. ثم يبين حكمة هذا النصر.. أي نصر.. وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء: {ليقطع طرفاً من الذين كفروا. أو يكبتهم فينقلبوا خائبين- ليس لك من الأمر شيء- أو يتوب عليهم. أو يعذبهم فإنهم ظالمون}.. إن النصر من عند الله. لتحقيق قدر الله. وليس للرسول- صلى الله عليه وسلم- ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي. كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ; ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله وبالتأييد من عنده. لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده: {ليقطع طرفاً من الذين كفروا}.. فينقص من عددهم بالقتل أو ينقص من أرضهم بالفتح أو ينقص من سلطانهم بالقهر أو ينقص من أموالهم بالغنيمة أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة! {أو يكبتهم فينقلبوا خائبين}.. أي يصرفهم مهزومين أذلاء فيعودوا خائبين مقهورين. {أو يتوب عليهم}.. فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم فيتوب الله عليهم من كفرهم ويختم لهم بالإسلام والهداية.. {أو يعذبهم فإنهم ظالمون}.. يعذبهم بنصر المسلمين عليهم. أو بأسرهم. أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب.. جزاء لهم على ظلمهم بالكفر وظلمهم بفتنة المسلمين وظلمهم بالفساد في الأرض وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه.. إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله. وعلى أية حال فهي حكمة الله، وليس لبشر منها شيء.. حتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخرجه النص من مجال هذا الأمر ليجرده لله وحده- سبحانه- فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك. بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر: من أسبابه ومن نتائجه! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء إنما الأمر كله لله أولاً وأخيراً. وبذلك يرد أمر الناس- طائعهم وعاصيهم- إلى الله. فهذا الشأن شأن الله وحده- سبحانه. شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء.. وليس للنبي- صلى الله عليه وسلم- وليس للمؤمنين معه إلا أن يؤدوا دورهم ثم ينفضوا أيديهم من النتائج وأجرهم من الله على الوفاء وعلى الولاء وعلى الأداء. وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: {ليس لك من الأمر شيء} فسيرد في السياق قول بعضهم: {هل لنا من الأمر من شيء؟}.. وقولهم: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا.}.. ليقول لهم: إن أحداً ليس له من الأمر من شيء. لا في نصر ولا في هزيمة. إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس. وأما الأمر بعد ذلك فكله لله. ليس لأحد منه شيء. ولا حتى لرسول الله.. فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي. وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث وأكبر من شتى الاعتبارات.. ويختم هذا التذكير ببدر، وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره.. يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير: وهو أن الأمر لله في الكون كله، ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء: {ولله ما في السماوات وما في الأرض. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم}.. فهي المشيئة المطلقة المستندة إلى الملكية المطلقة وهو التصرف المطلق في شأن العباد بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض. وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد في المغفرة أو في العذاب. إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل وبالرحمة والمغفرة. فشأنه- سبحانه- الرحمة والمغفرة: {والله غفور رحيم}.. والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته بالعودة إليه ورد الأمر كله له وأداء الواجب المفروض وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب. وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة- معركة أحد- والتعقيبات على وقائعها وأحداثها.. تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى، التي ألمعنا في مقدمة الحديث إليها. المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة.. يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله. وعن الإنفاق في السراء والضراء والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون. وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة. وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة، واتقوا الله لعلكم تفلحون. واتقوا النار التي أعدت للكافرين. وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون. وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين: الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. والله يحب المحسنين. والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم- ومن يغفر الذنوب إلا الله؟- ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. ونعم أجر العاملين}.. تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية ; لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة: الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله ; ورده كله إلى محور واحد: محور العبادة لله والعبودية له والتوجه إليه بالأمر كله. والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها وفي كل شأن من شؤونها وفي كل جانب من جوانب نشاطها. ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل ألوان النشاط الإنساني ; وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله كما أسلفنا. والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق. ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية ; وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب والسيطرة على الأهواء والشهوات وإشاعة الود والسماحة في الجماعة.. فكلها قريب من قريب.. وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات وكل توجيه من هذه التوجيهات يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة! {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون. واتقوا النار التي أعدت للكافرين. وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}.. ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا.. ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة. فإن قوماً يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص ويتداروا به ليقولوا: إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة. أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة.. فليست أضعافاً مضاعفة. وليست داخلة في نطاق التحريم! ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع، وليست شرطاً يتعلق به الحكم. والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا- بلا تحديد ولا تقييد: {وذروا ما بقي من الربا} أياً كان! فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف لنقول: إنه في الحقيقة ليس وصفاً تاريخياً فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة والتي قصد إليها النهي هنا بالذات. إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت أياً كان سعر الفائدة. إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة. ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة. فهي عمليات متكررة من ناحية، ومركبة من ناحية أخرى. فهي تنشئ مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافاً مضاعفة بلا جدال. إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائماً هذا الوصف. فليس هو مقصوراً على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب. إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان. ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية- كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث- كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية- كما فصلنا ذلك أيضاً- ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها وتأثيره في مصائرها جميعاً. والإسلام- وهو ينشئ الأمة المسلمة- كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية. وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف. فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوماً في هذا المنهج الشامل البصير.. أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح ; واتقاء النار التي أعدت للكافرين.. أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك ; وهو أنسب تعقيب: إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين.. ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله، ويعزل نفسه من صفوف الكافرين.. والإيمان ليس كلمة تقال باللسان ; إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان. وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته. ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان. وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة; وهناك النار التي أعدت للكافرين! والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة.. والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين ليس عبثاً ولا مصادفة. إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين. وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله.. فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى ولتحقيق منهج الله في حياة الناس.. ولقد سبق الحديث في الجزء الثالث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية وويلاته البشعة في حياة الإنسانية. فلنرجع إلى هذا البيان هناك لندرك معنى الفلاح هنا واقترانه بترك النظام الربوي المقيت! ثم يجيء التوكيد الأخير: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}.. وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول، وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة. ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة. هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي ; ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره. . وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيداً بعد توكيد.. وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول، بوصفها وسيلة الفلاح وموضع الرجاء فيه.. ثم لقد سبق في سورة البقرة- في الجزء الثالث- أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا والحديث عن الصدقة. بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي ; وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم: النظام الربوي. والنظام التعاوني.. فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء.. فبعد النهي عن أكل الربا والتحذير من النار التي أعدت للكافرين، والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح.. بعد هذا يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة ; وإلى جنة عرضها السماوات والأرض (أعدت للمتقين).. ثم يكون الوصف الأول للمتقين هو: {الذين ينفقون في السراء والضراء}- فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة- ثم تجيء بقية الصفات والسمات: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين: الذين ينفقون في السراء والضراء. والكاظمين الغيظ. والعافين عن الناس. والله يحب المحسنين. والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم- ومن يغفر الذنوب إلا الله؟- ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون..} والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية.. يصوره سباقاً إلى هدف أو جائزة تنال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}.. {وجنة عرضها السماوات والأرض}.. سارعوا فهي هناك: المغفرة والجنة.. {أعدت للمتقين}.. ثم يأخذ في بيان صفات المتقين: {الذين ينفقون في السراء والضراء}.. فهم ثابتون على البذل، ماضون على النهج، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء. السراء لا تبطرهم فتلهيهم. والضراء لا تضجرهم فتنسيهم. إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ; والتحرر من الشح والحرص; ومراقبة الله وتقواه.. وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها المحبة للمال بفطرتها.. ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال إلا دافع أقوى من شهوة المال وربقة الحرص وثقلة الشح.. دافع التقوى. ذلك الشعور اللطيف العميق الذي تشف به الروح وتخلص وتنطلق من القيود والأغلال.. ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة. فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل- كما سيأتي في السياق القرآني- مكرراً كذلك. مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله. {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس}.. كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل، بنفس البواعث ونفس المؤثرات. فالغيظ انفعال بشري تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ; فهو إحدى دفعات التكوين البشري وإحدى ضروراته. وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ; وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات. وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى. وهي وحدها لا تكفي. فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ; فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ; ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين.. وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن.. لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين.. إنها العفو والسماحة والانطلاق.. إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ; وشواظ يلفح القلب ; ودخان يغشى الضمير.. فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب فهو الانطلاق من ذلك الوقر والرفرفة في آفاق النور والبرد في القلب والسلام في الضمير. {والله يحب المحسنين}.. والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون. والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون.. والله {يحب} المحسنين.. والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم.. ومن حب الله للإحسان وللمحسنين، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه. وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب.. فليس هو مجرد التعبير الموحي، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير! والجماعة التي يحبها الله وتحب الله.. والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان.. هي جماعة متضامة وجماعة متآخية وجماعة قوية. ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق! ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم- ومن يغفر الذنوب إلا الله؟- ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}.. يا لسماحة هذا الدين! إن الله- سبحانه- لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته- سبحانه وتعالى- معهم. ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا: إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين.. ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين {الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم}.. والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها. ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها من رحمة الله. ولا تجعلهم في ذيل القافلة.. قافلة المؤمنين.. إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة.. مرتبة {المتقين}.. على شرط واحد. شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته.. أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء.. وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله والاستسلام له في النهاية. فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله. إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحياناً إلى درك الفاحشة وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع. يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه. حين يرتكب الفاحشة.. المعصية الكبيرة.. وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل وأنه يعرف أنه عبد يخطئ وأن له رباً يغفر.. وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطئ المذنب بخير.. إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر. فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه والحبل في يده. ما دام يذكر الله ولا ينساه ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته. إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة ولا يلقيه منبوذاً حائراً في التيه! ولا يدعه مطروداً خائفاً من المآب.. إنه يطمعه في المغفرة ويدله على الطريق ويأخذ بيده المرتعشة ويسند خطوته المتعثرة وينير له الطريق ليفيء إلى الحمى الآمن ويثوب إلى الكنف الأمين. شيء واحد يتطلبه: ألا يجف قلبه وتظلم روحه فينسى الله.. وما دام يذكر الله. ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي. ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي. ما دام في قلبه ذلك الندى البليل.. فسيطلع النور في روحه من جديد وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد وستنبت البذرة الهامدة من جديد. إن طفلك الذي يخطئ ويعرف أن السوط- لا سواه- في الدار.. سيروح آبقاً شارداً لا يثوب إلى الدار أبداً. فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يداً حانية تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة.. فإنه سيعود! وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه.. فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة وبجانب الثقلة رفرفة وبجانب النزوة الحيوانية أشواقاً ربانية.. فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد. ما دام يذكر الله ولا ينساه ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة! والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» والإسلام لا يدعو- بهذا- إلى الترخص ولا يمجد العاثر الهابط ولا يهتف له بجمال المستنقع! كما تهتف «الواقعية»! إنما هو يقيل عثرة الضعف ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء كما يستجيش فيها الحياء! فالمغفرة من الله- ومن يغفر الذنوب إلا الله؟- تخجل ولا تطمع وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار. فأما الذين يستهترون ويصرون فهم هنالك خارج الأسوار موصدة في وجوههم الأسوار! وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها. ويفتح أمامها باب الرجاء أبداً ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها. ... هؤلاء المتقون ما لهم؟ {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. ونعم أجر العاملين}.. فهم ليسوا سلبيين بالاستغفار من المعصية. كما أنهم ليسوا سلبيين بالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس.. إنما هم عاملون. {ونعم أجر العاملين}.. المغفرة من ربهم، والجنة تجري من تحتها الأنهار بعد المغفرة وحب الله.. فهنالك عمل في أغوار النفس وهنالك عمل في ظاهر الحياة. وكلاهما عمل وكلاهما حركة وكلاهما نماء. وهنالك الصلة بين هذه السمات كلها وبين معركة الميدان التي يتعقبها السياق.. وكما أن للنظام الربوي- أو النظام التعاوني- أثره في حياة الجماعة المسلمة وعلاقته بالمعركة في الميدان، فكذلك لهذه السمات النفسية والجماعية أثرها الذي أشرنا إليه في مطلع الحديث.. فالانتصار على الشح والانتصار على الغيظ والانتصار على الخطيئة والرجعة إلى الله وطلب مغفرته ورضاه.. كلها ضرورية للانتصار على الأعداء في المعركة. وهم إنما كانوا أعداء لأنهم يمثلون الشح والهوى والخطيئة والتبجح! وهم إنما كانوا أعداء لأنهم لا يُخضعون ذواتهم وشهواتهم ونظام حياتهم لله ومنهجه وشريعته. ففي هذا تكون العداوة وفي هذا تكون المعركة وفي هذا يكون الجهاد. وليس هنالك أسباب أخرى يعادي فيها المسلم ويعارك ويجاهد. فهو إنما يعادي لله ويعارك لله ويجاهد لله! فالصلة وثيقة بين هذه التوجيهات كلها وبين استعراض المعركة في هذا السياق.. كما أن الصلة وثيقة بينها وبين الملابسات الخاصة التي صاحبت هذه المعركة. من مخالفة عن أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن طمع في الغنيمة نشأت عنه المخالفة. ومن اعتزاز بالذات والهوى نشأ عنه تخلف عبد الله ابن أبيّ ومن معه. ومن ضعف بالذنب نشأ عنه تولي من تولى- كما سيرد في السياق- ومن غبش في التصور نشأ عنه عدم رد الأمور إلى الله، وسؤال بعضهم: {هل لنا من الأمر من شيء}؟ وقول بعضهم: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا}.. والقرآن يتناول هذه الملابسات كلها، واحدة واحدة، فيجلوها، ويقرر الحقائق فيها، ويلمس النفوس لمسات موحية تستجيشها وتحييها.. على هذا النحو الفريد الذي نرى نماذج منه في هذا السياق. بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق. وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة، إنما هو حادث عابر وراءه حكمة خاصة.. ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان. فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها. وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها: حكمة تمييز الصفوف، وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ; ووقف المسلمين أمام الموت وجهاً لوجه وقد كانوا يتمنونه ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي! ثم في النهاية محق الكافرين بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين.. وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة. {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين.. ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون- إن كنتم مؤمنين- أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. وتلك الأيام نداولها بين الناس. وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين؟ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون}. لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة وأصابهم القتل والهزيمة. أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير. قتل منهم سبعون صحابياً وكسرت رباعية الرسول- صلى الله عليه وسلم- وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح.. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: «أنى هذا؟» وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟! والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض. يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور. فهم ليسوا بدعاً في الحياة ; فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام. واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق. ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين ; بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول. والسنن التي يشير إليها السياق هنا ويوجه أبصارهم إليها هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ. ومداولة الأيام بين الناس. والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين. وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال والمواساة في الشدة والتأسية على القرح الذي لم يصبهم وحدهم إنما أصاب أعداءهم كذلك وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً وأهدى منهم طريقاً ومنهجاً، والعاقبة بعد لهم والدائرة على الكافرين.
|